خطبة مفرغة بعنوان أحكام الأضحية لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
خطبة مفرغة بعنوان أحكام الأضحية لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
  | الإعلام والإعلان, المقالات   | 31

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة مفرّغة بعنوان

(أحكام الأضحية)

لفضيلة الشيخ العلّامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى–

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الحمدُ لله الذي شرع لعباده التقرّب إليه بذبح القُربان، وقرَنَ النحر له بالصلاة في محكم القرآن، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى على كل إنسان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا.

أما بعد:

فيا عباد الله، اتَّقوا الله تعالى وتقرَّبوا إليه بذبح الأضاحي؛ فإنها سنَّة أبيكم إبراهيم الذي أُمرتم باتِّباع ملّته، وسنَّة نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يضحّي منذ هجرته إلى المدينة عن محمد وآل محمد حتى توفي، فكانت الأضحية مشروعة بكتاب الله وسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين، وبها يشارك أهل البلدان حجّاج البيت في بعض شعائر الحج، فالحجاج يتقرَّبون إلى الله بذبح الهدايا، وأهل البلدان يتقرَّبون إليه بذبح الضحايا، وهذه من رحمة الله بعباده؛ حيث لم يَحْرم أهل البلدان الذين لم يُقدّر لهم الحج من بعض شعائره.

أيها المسلمون، ضحُّوا عن أنفسكم وعن أهليكم تعبّدًا لله تعالى وتقرّبًا إليه واتّباعًا لسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالواحدة من الغنم تجزئ عن الرَّجل وأهل بيته أحيائهم وأمواتهم، والسُبع من البعير أو البقرة يجزئ عمّا تجزئ عنه الواحدة من الغنم، فيجزئ عن الرجل وأهل بيته الأحياء والأموات.

أيها الناس، إن السُّبع من البعير أو البقرة يجزئ عن الرجل وأهل بيته أحيائهم وأمواتهم.

إن من الخطإ أن يضحّي الإنسان عن أمواته من عند نفسه ويترك نفسه وأهله الأحياء، وأشد خطأً مِن ذلك مَن يضحّي عن الميت أول سنة يموت يسمّيها: «أضحية الحفْرَة» ويعتقد أنها واجبة وأنه لا يُشَرّك فيها أحد وهي في الحقيقة -أعني: أضحية الحفْرَة- هي في الحقيقة بدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّته من البدع وقال: «كل بدعة ضلالة»[1].

إن الأضحية عن الأموات تكون على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن تكون أضحية أوصى بها الميت فهذه تضحّى عمّن قال الميت، لا يُزاد فيها ولا يُنقص.

الثاني: أن تكون أضحية عن الميّت تبعًا للأحياء فهذه لا بأس بها؛ لأن الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذا عن محمد وآله»[2]، الظاهر أنه يشمل أحياءهم وأمواتهم.

أما القسم الثالث: فهي الأضحية عن الميت وحده تبرّعًا، فهذه لم ترد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه فيما نعلم؛ لذلك ينبغي للإنسان ألا يقتصر على الميت في التبرّع له بالأضحية بل يضحّي عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، ونحن لا نقول إن الأضحية عن الميت حرام ولكنّنا نقول: إن الأَوْلَى اتّباع السنَّة وألا يُضحّى عن الميت وحده ولكنْ يضحي الرَّجل عنه وعن أهل بيته، وفضل الله واسع.

أيها المسلمون، إن الأضحية لا تجزئ إلا من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم ضأنها ومعزها، لقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج: 34]، ولا تجزئ الأضحية إلا بِما بلغ السن المعتبر شرعًا وهو: ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز وسَنَتان في البقر وخمس سنين في الإبل، فلا يُضحّى بِما دون ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنّة»[3] -وهي: الثَّنِيَّة- «إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»[4] أخرجه مسلم.

ولا تجزئ الأضحية إلا بِما كان سليمًا من العيوب التي تمنع من الإجزاء، فلا يُضحّى بالعوراء البيِّن عورها وهي: التي نتأت عينها العوراء أو انخسفت، ولا بالعرجاء البيِّن ضَلَعُها وهي: التي لا تستطيع الممشى مع السلمية، ولا بالمريضة البيِّن مرضها وهي: التي ظهرت آثار المرض عليها بحيث يعرف مَن رآها أنها مريضة من جرب، أو حمى، أو جروح أو غيرها، ولا بالهزيلة التي لا مخَّ فيها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئلَ ماذا يُجتنب من الأضاحي ؟ فأشار بيده وقال: «أربع: العرجاء البَيِّن ضَلَعُها والعوراء البَيِّن عورها والمريضة البَيِّن مرضها والعجفاء التي لا تُنقي»[5] فقيل للبراء بن عازب راوي هذا الحديث: إني أكره أن يكون في الأذن نقص، أو في القرن نقص، أو في السن نقص ؟ فقال البراء: ما كرهتَ فدَعْهُ ولا تحرّمه على أحد.

فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء دَلَّ على ذلك الحديث وقال به أهل العلم، ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد، فلا يضحّى بالعمياء ولا بمقطوعة إحدى اليدين أو الرِّجلين ولا بالمبشومة حتى يزول الخطر عنها، ولا بِما أصابها أمر تموت به كالمجروحة جرحًا خطيرًا والمنخنقة والمتردِّية من جبل ونحوها مِمَّا أصابها سبب الموت حتى يزول عنها الخطر، لأن هذه العيوب الأربعة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- مانعة من الإجزاء فما كان مثلها أو أولى منها كان مانعًا من الإجزاء.

فأما العيوب التي دون هذه فإنها لا تمنع من الإجزاء، فتجزئ الأضحية بمقطوعة الأذن وبمشقوقة الأذن مع الكراهة لحديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرف العين والأذن وألا نضحّي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء»[6] وهذه الصفات شقوقٌ في الأذن، وتجزئ الأضحية بمكسورة القَرْن مع الكراهة لحديث عُتبة بن عبدٍ السلمي: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المستأصلة»[7] وهي: التي ذهب القَرْن من أصله.

وتجزئ الأضحية بمقطوعة الذنب من الإبل والبقر والمعز مع الكراهة قياسًا على مقطوعة الأذن؛ ولأن في بعض ألفاظ حديث علي -رضي الله عنه- «أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نضحّي ببتراء ومِمَّن مقطوعة الذنَب»[8].

ومن مقطوعة الذنَب: هذه الغنم التي ترد من استراليا فإنه ليس لها ألية في أصل الخلقة وإنما لها ذيل كذيل البقر وهي مقطوعة الذَّيل، فمَنْ ضحّى بها أجزأت، ولكنْ الأفضل ألا يضحي بها؛ لأنها ناقصة الخلقة، أما مقطوعة الألية من الضأن فلا تجزئ في الأضحية وإن كانت من نوع لا ألية له من أصل الخلقة فلا بأس بها، وتجزئ الأضحية بِما نشف ضرعها من كِبَرٍ أو غيره إذا لم تكن مريضة مرضًا بيِّنًا، وتجزئ التضحية بِما سقطت ثناياها أو انكسرت، وكلّما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها وأحسن منظرًا فهي أفضل.

فاستكملوها – عباد الله – واستحسنوها وطيبوا بها نفسًا، واعلموا أن ما أنفقتم من المال فيها فإنه ذخر لكم عند الله عزَّ وجل، ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[البقرة: 265].

واعلموا أن الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، لأنها شعيرة من شعائر الله، وليس المقصود منها مجرّد اللحم الذي يؤكل ويفرّق بل أهم مقصود فيها ما تتضمنه من تعظيم الله – عزَّ وجل – بالذبح له وذكْر اسمه عليها.

ولقد أصاب الناس في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنة من السنين أصابهم مجاعة وقت الأضحى ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بترك الأضحية وصرف ثمنها إلى المحتاجين بل أقرَّهم على الأضاحي وقال لهم: مَنْ ضحَّى منكم فلا يُصبحنَّ بعد ثالثة في بيته شيء، فلمّا كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلوا وأطعِموا وادخروا؛ فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها»[9] رواه البخاري ومسلم.

أيها الناس، إنني وجدت إعلانًا على شركة الراجحي لِمَن أراد أن يضحّي أن يدفع قيمتها ويضحّى، وإني أقول لكم: لا تفعلوا ذلك، ضحّوا في بلادكم؛ فإن الأضحية في البلد أفضل، وكون الإنسان يتولاها بنفسه أفضل إذا كان يحسن الذبح وإلا وَكِّلْ مَن يذبحها وحضرها؛ فإن ذلك أفضل وأطيب وأقوم لشعائر الله، وما أصابكم من الجهد والعناء والتوزيع فإن ذلك كلّه أجر لكم، وأنتم – أيها المسلمون – لا تظنّوا أن المقصود بالأضاحي هو اللحم، إنّما هي عبادة عظيمة مقرونة في كتاب الله بالصلاة ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].

إن هذا المبدأ؛ أعني: مبدأ إعطاء الدراهم لِمَن يضحي ولا يُدرى كيف يضحي، إن هذا المبدأ أخشى أن يكون مبدأً سيئ العاقبة، أخشى أن يكون ذلك وسيلة إلى ترك الأضاحي في البلدان فتصبح البلدان قفْرًا من هذه الشعيرة العظيمة؛ لذلك أنا أحثّكم حثًّا بالغًا ألا تعطوا أحدًا يذبح ضحاياكم لا الراجحي ولا غيره، ضحّوا أنتم بأنفسكم في بيوتكم يشاهدها أولادكم، يشاهدون شعيرة الله تُقام في هذا اليوم العظيم يوم النحر، يوم الحج الأكبر، لا تحرموا أنفسكم أيها الإخوة، واللهِ إنكم ستموتون وسيتمنّى الواحد منكم أن يكون له مثقال ذرة في حسناته، لا تحرموا أنفسكم الخير، لا تتكاسلوا، لا تتهاونوا، ضحّوا أنتم بأنفسكم أمام أولادكم وأهليكم حتى تقوم هذه الشعيرة العظيمة.

أما الهدي وإعطاء شركة الراجحي أو المعيصم أو غيرهما فإن هذا قد يكون له وجهة نظر؛ لأن الإنسان في مِنى إذا ذبح الأضحية تركها تأكلها النار أو تذهب هباءً، فإذا أُعطي هؤلاء فقد يكون ذلك أجدى وأنفع، أما الأضاحي فلا وجه لإعطائهم إطلاقًا.

فاتّقوا الله في أنفسكم، وأقيموا شعائر الله، وأرجو من إخوتي القائمين على شركة الراجحي أن يخلعوا هذا الإعلان من الباب، وألا يفتحوا هذا الباب أبدًا للناس بل يتركوا الناس يُقيمون شعائر الله في بلاد الله.

أيها المسلمون، لا تذبحوا ضحاياكم إلا بعد انتهاء صلاة العيد وخطبتيها الثنتين؛ فإن ذلك أفضل وأكمل اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يذبح أضحيته بعد الصلاة والخطبة، قال جندب بن سيفان البجلي -رضي الله عنه-: «صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ثم خطب ثم ذبح»[10] رواه البخاري، ولا يجزئ الذبح قبل تمام صلاة العيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدَّمه لأهله وليس من النسك في شيء»[11] وفي حديث آخر: «مَن ذبح قبل أن يصلي فلْيعد مكانها أخرى»[12].

أيها المسلمون، إذا ذبحتم ضحاياكم فإنه ينبغي أن تَطَؤوا صفحة العنق؛ أي: على عنقها، وأن تُمسكوا بإحدى اليدين رأسها وتذبحوا باليد الأخرى وأن تقولوا عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذا عنِّي وعن أهل بيتي، إذا كنتَ تضحي عنك وعن أهل بيتك، وإذا كانت وصية فلْتقل: اللهم هذه عن وصية فلان، هذه هي التسمية المشروعة: أن يسمِّي الإنسان عند الذبح وبعد البسملة والتكبير، أما ما يفعله العوام من إمرار اليد من رأسها إلى ذنَبها ومسح ظهرها فإن هذا لا أصل له في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يُفعل.

وإذا ذبحتم فاتركوا يديها ورِجْليها ترفس؛ فإن ذلك أولَى وأحسن، قال العلماء: إن هذا أبلغ في إنهار الدم وأريح للذبيحة ولم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر أحدًا بإمساك يديها ورِجْليها، وغاية ما روي عنه أن كان «يضع رِجْله صلوات الله وسلامه عليه على عُنقها»[13].

أيها المسلمون، عظِّموا شعائر الله – عزَّ وجل – واعتنوا بها واذكروا قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[الحج: 34-37].

اللهم وفِّقنا جميعًا لتعظيم شعائرك والعمل بشريعتك والوفاة عليها؛ إنك جوادٌ كريم.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.

اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد.

 ::: الخطبة الثانية :::

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لِمَن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا البدر وأنور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

أيها الناس، فأَكْثروا في هذه الأيام من ذكْر الله -عزَّ وجل- وتكبيره وحمده والثناء عليه؛ فإنها موضع ذكْر، أَكْثروا من الذكْر والتكبير والحمد في كل وقت، وأما بعد الصلوات فإنه لا يبدأ التكبيرُ على ما قاله أهل العلم إلا من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، هذا هو موضع الذكر المقيّد الذي يكون أدبار الصلوات، وأما في هذه الأيام -أي: قبل فجر يوم عرفة- فإنالمشروع أدبار الصلوات الأذكار المعروفة التي يذكرها الإنسان بعد صلاته كل وقت.

فاعرفوا الفرق بين التكبير المطلق والتكبير المقيَّد، التكبير المطلق: من أول يوم من العشر إلى آخر يوم من أيام التشريق فهو ثلاثة عشر يومًا، أما المقيَّد: فإنه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، وفي يوم عرفة والأيام التي بعده يجتمع المطلق والمقيَّد جميعًا.

أيها الإخوة، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «أَحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده»[14]، فصوموا – أيها المسلمون – يوم عرفة ابتغاءً لهذا الأجر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، أما الحجّاج بعرفة فإنه لا يُسنّ لهم أن يصوموا يوم عرفة؛ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-«أنه كان مفطرًا»[15] فيه؛ ولأن الناس في ذلك المكان ينبغي أن يكونوا أقوياء، وينبغي أن يكونوا نشيطين على الدعاء؛ لأنه وقت دعاء وابتهال لله عزَّ وجل.

ولقد اعتاد بعض العوام أن يصوموا يومين قبل يوم عرفة لتكون الأيام ثلاثة، يسمّون هذه الأيام: أيام ثلاثة ذي الحجة، فيصومونها يعتقدون أن فيها أجرًا وثوابًا وهذا خطأ؛ فإن هذه الأيام الثلاثة جميعًا ليس لها أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَن كان له عادة أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام هذه الأيام الثلاثة لتكون عِوضًا عن ثلاثة الأيام التي يصومها في كل شهر فإن هذا لا بأس به، أما مَن صامها يعتقد أن فيها فضلاً ولها مزيَّة فإنه لا يصومها؛ لأن ذلك لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما ورد عنه صيام يوم عرفة فقط، أما صيام عشر ذي الحجة جميعًا فقد سبق الكلام عليه في خطبة الجمعة الماضية وبيَّنا أنه من الأعمال الصالحة التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر»[16].

أيها الناس، إنه ينبغي بل يجب عند كثير من أهل العلم أن يخرج الناس إلى صلاة العيد وهي فرض عين عند شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم وفرض كفاية على المشهور من المذهب، فمَن شارَك فيها فقد شارَك في فرض إما فرض عين وإما فرض كفاية، فاخرجوا إليها أيها المسلمون، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- «يأمر بالخروج إليها حتى النساء يشهدْنَ الخير ودعوة المسلمين ويعتزل الحيَّضُ المصلى»[17]، فاخرجوا إليها رجالاً ونساءً ولْيخرج الرجال مُتَجَمِّلين ومُتَطَيِّبين ومُتَنَظِّفين، أما النساء فلا يخرجْنَ متطيِّبات ولا متبرِّجات؛ لأن ذلك من الفتنة، وستكون إقامة صلاة العيد هذا العام بعد طلوع الشمس بثلث ساعة وهو ما يساوي الساعة السادسة إلا عشر دقائق في التوقيت الزّوالي وحوالي الحادية عشرة في التوقيت الغروبي هذا هو موعد إقامة الصلاة، هذا العيد إن شاء الله تعالى.

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من مقيمي الصلاة، ومؤتي الزكاة، المخْبِتين إلى الله عزَّ وجل، التائبين إليه من الذنوب.

اللهم إني أسألك في مقامي هذا أن تجعلنا جميعًا من حزبك المفْلحين وأوليائك المتَّقين، اللهم احشرنا في زمرة الأنبياء والصديقين يا رب العالمين مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين.

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد خاتم النبيين وإمام المتَّقين وقائد الغُر المحجَّلين، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين.

اللهم لا تجعل ذنوبنا حائلاً بيننا وبين ذلك، وتجاوزْ عنَّا واغفر لنا واعفُ عنَّا، فأنت إلهنا وملجؤنا وملاذنا، لا ربَّ لنا سواك، ولا إله لنا غيرك، نسألك اللهم أن تَمُنَّ علينا بالعفو والغفران، وأن تُعيد علينا أمثال هذه الأيام ونحن نتمتّع بالأمن والإيمان وسلامة الأديان والأبدان يا رب العالمين، ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].

ربنا أَصْلح لنا ولاة أمورنا وأَصْلح بطانتهم يا رب العالمين؛ إنك على كل شيءٍ قدير.

عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدْكُم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت: 45].

[منقول من موقع الشيخ رحمه الله ]


[1] أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] رقم [867] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.

[2] أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، رقم [3637] ت ط ع.

[3] أخرجه الإمام مسلم في كتاب [الأضاحي] رقم [1963] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما

[4] أخرجه الإمام مسلم، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما-  في كتاب [الأضاحي] رقم [3631].

[5] أخرجه الإمام مسلم، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما-  في كتاب [الأضاحي] رقم [3631].

[6] أخرجه النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الضحايا] من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [4293]، وأخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [17927]، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [الأضاحي] من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [1868]، وأخرجه الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في [ الموطأ ] في كتاب [الضحايا] رقم [912]، وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب [الأضاحي] من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [1497] ت ط ع.

[7] أخرجه أبو داوود -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الضحايا] من حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله تعالى عنه، رقم [2803].

[8] أخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [الضحايا] رقم [2422]، وأخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، رقم [809]، وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب [الأضاحي] من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، رقم [1418]، وأخرجه النسائي في سننه في كتاب [الضحايا] من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، رقم [4296] [97-99]

[9] أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] رقم [5143]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] رقم [3648]، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه.

[10] أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] من حديث جندب رضي الله تعالى عنه، رقم [932].

[11] أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [912]، وأخرجه في كتاب [الأضاحي] رقم [5119]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [3627].

[12] أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] من حديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله تعالى عنه، رقم [5136].

[13] أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] رقم [5139]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأضاحي] رقم [3635] من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ت ط ع.

[14] أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الصيام] رقم [1976] من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه.

[15] أخرجه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [8018] ت م ش، انظر إلى تعليق شعيب الأرنؤط على هذا الحديث.

[16] أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، رقم [1867]، والترمذي في كتاب [الصوم] رقم [688]، وابن ماجة في سننه في كتاب [الصيام] رقم [1717]، وأبو داوود في سننه في كتاب [الصيام] رقم [2082] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ت ط ع.

[17] قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحيض] «باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلنَ المصلى» وأخرج له أحاديث كثيرة منها في كتاب [الصلاة] من حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها، [338] [927] [928] [1542] في كتاب [الحج]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [صلاة العيدين] رقم [1475]، من حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها.