تحذير أولي الألباب من المقالات المخالفة للصواب (2) التقريرات المسطورة بالكشف عن سقوط قصة المقبورة
تحذير أولي الألباب من المقالات المخالفة للصواب (2) التقريرات المسطورة بالكشف عن سقوط قصة المقبورة
  | المقالات   | 869

بسم الله الرحمن الرحيم
تحذير أولي الألباب من المقالات المخالفة للصواب (2)
التقريرات المسطورة بالكشف عن سقوط قصة المقبورة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه وكفى بالله شهيداً
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آل وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً

أما بعد:

    فيا معاشر السامعين من المسلمين والمسلمات أُحيِّيكم هذه الليلة وأرحِّبُ بكم محدِّثاً إياكم في مقالنا الثاني من سلسلة مقالاتنا الموسومة:

(تحذير أولي الألباب من المقالات المخالفة للصواب)
وهذه المقولة وهي الثانية من تلكم المقالات عنوانها:

(التقريرات المسطورة بالكشف عن سقوط قصة المقبُورة)

    وهذه القصة استمعتُ إليها عبر شريط للأستاذ [صالح بن عواد المغامسي] وفي أغلب ظنِّي أنه أستادٌ في [كُلِّية اللغة من جامعة طيبة بالمدينة النبوية] ومنذ سمعت هذه القصة استنكرتها، واستوحش منها قلبي، كما مجَّها سمعي، ولكن لم أحب أن أقول فيها شيئاً قبل أن أستوفِيَ دراستها سنداً ومتناً.

    وفي الأيامِ القريبةِ القليلةِ وقفتُ على ما أرى أنه يُروي الغليل ويَشفي العليل بإقامة الدّليل على أنّ تلكم القصّة هالكةٌ تالفةٌ ذاهبةٌ.

    وتتضمَّن رسالتُنا إليكم هذه الليلة معاشر السامعين من المسلمين والمسلمات ونحن نحدثكم عن هذه القِصّة ما يأتي:

أولا: إسماعُكم إياها بصوت الرجل، ويعلم الله أنه لم يكن فيه من قِبَلِنا لازيادةٌ ولانقصٌ.

وثانيا: بيانُ المأخد على هذه القصّة التى عدَّها من سمعها -وليس له أهليَّة النظر في سقيمِ الكلام وصحيحِه- موعظةً من المواعظِ البليغةِ.

فهاكم القصّة أولا مسوقةً إليكم بصوت الأستاذ [صالح بن عواد المغامسي] حاكٍ:

[المغامسي]: [جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وكان الرجل معه ابنه، وليس هناك فرقٌ بين الابن وأبيه، فتعجب عمر قائلاً: “والله ما رأيت مثل هذا اليوم عجباً ما أشبه أحد أحداً أنت وابنك إنك ما أشبه الغراب الغراب”، -والعرب تضرب فى أمثالها أن الغراب كثير الشبه بقرينه-،
وقال له يا أمير المؤمنين: كيف ولو عرفت أن أمه ولدته وهي ميتة..
فغيّر عمر من جلسته! وبدل من حالته وكان -رضي الله عنه وأرضاه- يحب غرائبَ الأخبار قال: أخبرني.
قال: يا أمير المؤمنين كانت زوجتي أم هذا الغلام حاملاً به فعزمتُ على السفر فمنعتني فلما وصلت إلى الباب ألَحَّت عليَّ ألاّ أذهب قالت: كيف تتركني وأنا حامل. فوضعت يدي على بطنها وقلت: “اللهم إني أستودعك غلامي هذا” ومضيتُ -وتأمَّل بقدر الله لم يقل: وأستودعك أمه-، فخرجت فمضيت، وقضيت في سبيل ما شاء الله لي أن أمضي وأقضي ثم عدت، فلمَّا عدت وإذا بالباب مُقفل وإذا بأبناء عمومتي يحيطون بي ويخبرونني أن زوجتي قد ماتت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأخذوني ليطعموني عشاء أعدُّوه، فبينما أنا على العشاء إذا بدخانٍ يخرج من المقابر، فقلت: ما هذا الدّخان؟ قالوا: هذا الدخان يخرج من مقبرة زوجتك كل يوم منذ أن دفنَّاها، فقال الرجل: والله أنني لمن أعلم خَلْق الله بها كانت صوّامة قوّامة عفيفة لا تقر منكراً وتأمر بالمعروف، ولا يُخزيها الله أبداً فقام وتوجه إلى المقبرة، وتبعه أبناء عمومته قال فلما وصلت إليها يا أمير المؤمنين أخذت أحفر حتى وصلت إليها، فإذا هي ميتة جالسة وابنها هذا الذي معي حيٌّ عند قدميها وإذا بمنادٍ ينادي يا من استودعت الله وديعةً خذ وديعتك. قال العلماءُ: “ولو أنه أستودع الله -جل وعلا- الأم لوجدها كما أستودعها لكن ليمضى قدر الله لم يجرى الله على لسانه أن يودع الأم!]

[ سماحة الوالد الشيخ عبيد الجابري]: سمعتم معاشرَ المسلمين والمسلمات هذه القصة وكما أسلفتُ فإنها بصوتِ الرجل كما حكاها، وهاكم بعد أن سمعتُموها ووعيتُموها تماماً، التعليقَ عليها، ويتضمَّن:

أولاً: مصادرَها كما وقفتُ عليها:

المصدر الأول: كتاب [الدعاء للإمام أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني اللّخمِي -رحمه الله-] فإنَّها موجودةٌ في كتابه ذلك بسندِها، وسندها فيه (عُبيد بن إسحاق العطار) ويقال (عطَّارُ المطلَّقات) كوفي كنيته أبو عبدالرحمن مات بعد المائتين من الهجرة.
وهذا الرجل العطار ضعَّفه جمٌّ غفيرٌ من الأئمة:
– قال فيه ابن عدى: “عامة أحاديثه منكر”.
– وقال ابن حبان في [المجروحين]: “يُحدِّث عن الثِّقات أو يروي عن الثقات ما لا يُشبه حديث الأثبات ولا يعجبني ما انفرد به”.
أقول: وهذه القصّة مما انفردَ بها ذلكم الرجل.
– وقال فيه البخاري: “له مناكير”.
– وقال الأزدي: “متروك الحديث”.
– وقال فيه ابن معين مرةً: “ليس بشي”.
– كما ضعفه الدارقطني والنسائي. وأمثال هؤلاء الأئمة والعلماء كثيرون، اختصرتُهم لأن مقصودي الإشارة التي يُدرك بها السامع أنّ القصةَ ضعيفةُ الإسناد.

والمصدر الثاني: كتابٌ لرجلٍ من غلاة المتصوِّفة وهو [ابن عطاء الله الإسكندراني] وقد شرح هذا الكتب [الحِكَم] متصوفٌ آخر هو أحمد بن محمد ابن عَجِيبة الحسَنِي. قال فيه صاحبُ [معجم المطبوعات العربية]: “العارف الصّوفي!!”، وسَمَّى شرحه (إيقاظ الهِمَم شرح متن الحِكَم) والقصة موجودةٌ في الشّرح.
    فبان بهذا التقرير أنَّ مصادرَ القصة ليست موثُوقة حتى يُعمَد إليها في وعظِ الناس وعظاً يُراد به إصلاحُ حالهم، وترغيبُهم في الخيرات، وترهيبُهم من المنكرات والسّيئات.

وأما المأخذ الثاني: وهو منصبٌّ على بعضِ عباراتِ القصة، وليست كلِّها.

فالعبارة الأولى: قول الشيخ -عفا الله عنّا وعنه، وأصلحَ الله حالنا وحالَه- في عمر -رضي الله عنه-: “وكان يحبُّ غرائبَ الأخبار!!” فالسؤال أولاً ما هذه الغرائب التي كان يحبُّها عمر -رضي الله عنه-؟! كما قال الأستاذ [صالح المغامسي] فإن هذه العبارة مجملة ولا عبرةَ بالمجمل إلا بعد البيان.

وثانياً: من له عنايةٌ بالحديث والأثر -نظرٌ يتضمّن الرّواية والدّراية- لا يقبلُ هذا القول لما هو ثابتٌ عن الفاروق -رضي الله عنه- من الشدَّة في الحق، والتحرِّي، ومن ذلكم:
ما في صحيح البخاري وغيره: أنه لما بلَّغه أبو موسى -رضي الله عنه- ما سمعه عن النبي -صلى الله عليه سلم- في الاستئذان أستنكره لأنه لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مع طول ملازمته له وكثرة مجالستِه له -صلى الله عليه وسلم -، فما قَبِلَ قولَ أبي موسى حتى أتى برجلٍ آخر يشهدُ بما شَهِد به، وذالكم الرجل هو أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

وثالثاً: من خبَرَ قصة صَبِيغ من خلال دواوين الإسلام في العقائد خاصّة وما صنعَ به عمرُ -رضي الله عنه- من ضَربِه بالعَراجِين لأنه يعمدُ إلى الغرائبِ من الأقوال تيقَّنَ أن عمرَ -رضي الله عنه- بعيدٌ كلَّ البعد من سماع الغرائب، حتى أن الفاروق -رضي الله عنه- كتب إلى عامله بالعراق -وأظنُّه- سعدَ بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بعزل صبيغ عن مجالس الناس، فبلغَ به من شدَّةِ الكَرْب والضيق ما بلغ، لأنّ صبيغاً كل ما أتى حَلقَة من حِلَق المسجد نادت حَلقَةٌ أخرى: “عَزمةُ أمير المؤمنين”، حتى أصبحَ الرجلُ كالأجرب الذي يَطرده الناس حتى لا يُعدِيَ مواشيهم، أفبعد هذه الأمور الثلاثة يقال: “إن الفاروق أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- كان يحبُّ غرائب الأخبار!!”.

المأخذ الثاني:
من المآخذ المنكرة في هذه القصة ما تضمَّنته أنّ تلك المرأة ماتت حاملاً وأن زوجها بعد عَوْدِه ِمن سفرها الذي أمضى فيه ما شاء الله نبَشَ قبرها بعد أن رأى دخاناً يخرج منه فوجد ولدَها الذي ماتت في حمله حيّاً وباتفاق الأطباء إنَّ القبرَ ليس فيه هواء ومعدوم الأوكسجين فلا تستقرُّ فيه حياة.

وإن قال قائل: ألا تصدقون بكرامات الأولياء فهذه كرامة؟
والجواب: نحن على ما عليه أئمتنا من أهل السُّنة من التصديق بكرامات الأولياء، والإيمانِ به واعتقاد أنها حقٌّ على حقيقته، ولكن لها -أعني الكرامة- عندَ أهل السُّنة شرطان:

أحدُهما: أن يكون -من يُخبَر عنه بالكرامة- من أهل التوحيد والسُّنة، ومن أهل التّقوى والصلاح، وليس من أهل الشّركيات والخرافات ولا من الفُسّاق ولا الفجار.
وثاني الشرطين: صحة نسبتها إلى من رُويت عنه.
وهذان الشرطان معدومان في هذه القصة، وقد علمتم إسنادَها ونكارةَ متنها، ومن كان له مَسْحَةٌ من العلم والفقه لا يُقِرُّها ولا يستسيغ نقلَها على أنها كرامةٌ يُوعَظ بها الناس، ولا أدري لِم عَمِد الشيخ [صالح المغامسيُّ] -عفا الله عنا وعنه- إلى حكاية هذه القصة وكان الواجب عليه أن يعمدَ إلى ما فيه الغنى والشفا من نصوص الكتاب والسنة، واستعمال فهمِ السلف الصالح، ليستعين به على استنباط الأحكام منهما، فإن هذا هو شأنُ الوعّاظ المصلحين، ولا يسلكُ غير هذا المسلك من تَقصُّد الحكايات والقصص الضعيفة أو المنقولة عن أهل الخرافة إلاّ رجلان:
– رجلٌ جاهل، ليست عندهُ أهليَّة النظر حتى يميز ما ينقله للناس ويعظهم به.

– وأخر صاحب هوى ضالٌّ مُضل له مَقصَد سيّئ، وهو: إشغال الناس عن فقه الكتاب والسنة، أو ربط عوام الناس بأهل الخُرافة من غلاة المتصوفة وأمثالِهم.

وأعيذ نفسي والأستاذ [المغامسي] بالله من هذين المسلكين فَكِلاهما إفساد غير إصلاح، وكلاهما سبيلٌ غير سبيل المؤمنين.

هذا ما يسرَّ الله سبحانه وتعالى جمعَه حيالَ هذه القصّة، -والله يعلم إني ما أردت إلا النصح-، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: “الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم” [أخرجه مسلم].

وخاتمة هذا الحديث:

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظَ أهل السُّنة في كل مكانٍ وزمانٍ، وأن يثبِّتهم عليها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أملاه: عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري
بعد مغرب الخميس الرابع والعشرين من شهر صفر عام ثلاثين وأربعمائة وألف
الموافق للتاسع عشر من فبراير -شباط- عام تسعة وألفين

والسلام عليكم..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزى الله خيراً من قام بتفريغه والاعتناء به