التفصيل في حكم القيام للقادم وبيان جوازه للمصافحة والسلام
التفصيل في حكم القيام للقادم وبيان جوازه للمصافحة والسلام
  | قسم المشرف   | 1846

بسم الله الرحمن الرحيم

التفصيل في حكم القيام للقادم

وبيان جوازه للمصافحة والسلام

سُئِلَ الشيخ الفاضل نزار بن هاشم العباس -حفظه الله تعالى-:

ما حكم جلوس الراقد إكراماً -أكرمكم الله- وتعظيماً للداخل؟

فأجاب -حفظه الله-:

لا حرج فيه إن شاء الله، بل هو من الأدب الطيِّب.

بل على الشباب أن يحترموا كبار السِّن من العوام بالقيام لهم لأجل مصافحتهم تألُّفاً لقلوبهم واحتراماً لهم وتوقيراً؛ لأن هذا عُرْفٌ عندهم يفيد ويعني الاحترام والتقدير، وهذا ما أجازه وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. والسلفيون أَوْلى الناس بهذه الآداب؛ ففي السُّنة: «ليس منا من لم يُجِل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالِمنا حقَّه» [صحيح الجامع]. وكم تَرَتَّبَ من صنيع الشباب المبتديء وغيرهم بعدم القيام لهم من إشكالٍ وإساءة ظنٍّ بهم وبأدبهم مِن قِبَلِ كبار العوام وغيرهم.

  • قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو تُرِكَ لَاعْتَقَدَ أن ذلك لِتَرْكِ حَقِّهِ أو قَصْدِ خَفْضِهِ ولم يَعْلَمْ العادة الموافِقَةَ للسُّنة فالأصْلَحُ أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء»، وقال: «فمن لم يعقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدةٌ راجحةٌ؛ فإنَّه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما» [مجموع الفتاوى1/338].
  • وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: «لا يلزم القيام للقادم، وإنما هو من مكارم الأخلاق؛ من قام إليه ليصافحه ويأخذ بيده ولا سيما صاحب البيت والأعيان، فهذا من مكارم الأخلاق» [مجموع الفتاوى والمقالات4/383].
  • وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في فتوى له مطوَّلة: «لكن إذا اعتاد الناس القيام وصار في ترك القيام مفسدة، وحمل قلب الداخل على من في المجلس، فلا بأس أن يقوم الإنسان»، وقال بعد أن ذكَر أنواع القيام: «أما القيام إليه فإنه سنة، إذا كان الذي قمت إليه أهلاً لذلك، مثل أن يدخل رجل فتقوم وتقابله وتصافحه وتسلم عليه، فهذا سنة لمن كان أهلاً، ودليل ذلك قصة سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حين قدم من المدينة إلى بني قريظة فلما أقبل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قوموا إلى صاحبكم). وأما القيام له فهو الذي سمعتم أن الأَوْلَى عدم اعتياد الناس له، وأن الإنسان إذا دخل فإنه يجلس حيث ينتهي المجلس، لكن إذا اعتاده الناس وكان في تركه شيء من المفسدة أو حمل القلوب على الداخل فليقم ولا بأس» [لقاءات الباب المفتوح].

وأُنبِّه هاهنا على مسألةٍ دقيقةٍ ربما تفيدنا من جهاتٍ عدَّةٍ:

(1) أن المراد من النهي عن القيام للداخل إنما نُهِيَ عنه تعليلاً له بالتشبه بفعل كفار الفرس والروم وغيرهم لملوكهم وعظمائهم فإذا رآهم الناسُ وتُبَّعُهم قاموا لهم تعظيماً حتى يجلسوا على عروشهم أو أرائكهم، ويَظَلُّون هكذا قياماً إلا إذا أشاروا إليهم بالجلوس أو القعود قعدوا وجلسوا؛ كما في السُّنة: «إن كدتُم آنفاً لتفعلون فعلَ فارسَ والروم, يقومون على ملوكِهم وهم قعودٌ. فلا تفعلوا، ائتموا بأئمَّتِكم؛ إن صلى قائماً فصلُّوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً» [صحيح مسلم]. إذن هذا؛

  • وقوفٌ للتعظيم،
  • وبهذه الكيفية،
  • ووقوفٌ مستمر،
  • إلا إذا أَذِنَ لهم بالقعود وإلا فلا.

ثم: لننتبه للشيء الدقيق؛ ألا وهو أنه ليس في هذا الفعل أي صلةٍ للمصافحة والتسليم باليد؛ فإن الملوك الكفرة لكِبْرِهم وعُلُوِّهم لا يسلِّمون ولا يصافحون شعوبهم، وهذا أمرٌ مهم.

على هذا نفهم معنى النهي أو الكراهة في السُّنة أنه معللٌ بهذه العلة (التشبه بالكفار) على ذات الصورة المذكورة سابقاً، لذلك لما حصل في الصلاة (أعني الوقوف الطويل من الصحابة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بهم جالساً) أشار عليهم بالقعود لعدم التشبه بالكفار، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم الملوك والحكام والخلفاء، لذا كان يكرهه من أصحابه.

(2) ثم نفرِّق -لأجل ما سبق وغيره- بين أمرين:

  • الوقوف بِذاته ولِذاته.
  • والوقوف لأجل المصافحة والسلام باليد، وهو محلُّ الإشكال ومحلُّ التنبيه. فإذا علمنا هذا الفرق المهم زال الإشكال بالكلية إن شاء الله.

لأجل هذا -والله أعلم- نبَّه شيخ الإسلام الفقيه -رحمه الله- على هذه المسألة وأرجَعَها إلى عُرْفِ الناس وعادتهم ولم يجعلها في متناول النص والكراهة.

(3) أما الحديث: «مَن أَحَبَّ أن يتمثَّل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار» [السلسة الصحيحة] فإنما هو كما في النص: (من أحب) لأنه بذلك يفعل له الناس ما يفعله شعوب الملوك لملوكهم من التعظيم -كما مرَّ معنا- وذلك منهيٌّ عنه، وهذا واضحٌ والحمد لله. نعم، مَن أَحَبَّ مِن الناس -مَلِكَاً كان فيهم أو مِن عامتهم- قيامَ الناس له بتلك الصورة والكيفية تعظيماً ولو بمصافحةٍ فهذا يُخشى عليه من هذا النص.

(4) ثم الإكرام والتوقير والاحترام لكبار السن والمعظَّمين شأنٌ آخر من الغَيْرِ لهم دعت إليه الشريعة تجاههم، فلو حَمَلَ مَن نحترمهم الكِبْرُ والغطرسةُ والكبرياءُ لأجل ما وجدوه من توقيرنا واحترامنا وإكرامنا لهم فلا شك أنهم ما بين جاهلٍ بالشرع وأحوال القلوب ومصلحها ومفسدها، أو متكبر متغطرس يُخشى عليه من عاقبة الكِبر «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبر» [صحيح مسلم]، إلى غير ذلك من نصوص الوعيد.

وبهذا إن شاء الله تُحَرَّرُ المسألة وتُحَقَّقُ ويُعْرَفُ أصلُها ولِمَ قال بها شيخُ الإسلام بحقٍّ ابن تيمية وغيره -رحمهم الله-، وأنه لا حرج مطلقاً إن شاء الله من الوقوف لأجل المصافحة والتسليم باليد أو المعانقة بعد الأسفار.

فعلى الشباب أن يتفطَّنوا لهذا، وليكونوا مفاتيح للخير والحق والدعوة إليه في أوساط العامة وكبرائهم، وبالله وحده التوفيق والسداد.

هذا بحسب إدراكي الضعيف؛ فإن أصبتُ فمن الله وإلا فمن نفسي والله المستعان غفَّار الذنوب.

  • ثم أفادني أحد الإخوة -وفقه الله- بهذا النقل الذي يفيد ويؤيد ما بيَّنْتُه وفصَّلتُه هاهنا ولله الحمد ثم للأخ الشكر؛ فقد ذكر الحافظ الخطيب البغدادي -رحمه الله- في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) عن الإمام أحمد عن بِشر بن الحارث -رحمهما الله- أنه قال: «إنما كُرِهَ القيام على طريق الكِبْر، فأما على طريق المودَّة فلا؛ قد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عكرمة بن أبي جهل، وألقى ثوبه لظئره، وقال: “قوموا إلى سيدكم”. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من أحبَّ أن يتمثل له الرجال قياماً” فكل من أحبَّ أن تقوم له فلا تقم، وكل من قمتَ إليه لك فيه تَفَرُّجٌ».

وكتبه

نزار بن هاشم العبَّاس

خريج الجامعة الإسلاميَّة بالمدينة النبويَّة

والمشرف على موقع راية السَّلف بالسُّودان

8/ شوال/ 1436هـ