تَنْبِيهُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ عَلَى مَا فِي زَكَاةِ الفِطْرِ مِنْ أَحْكَام (إِعْلاَمُ البَرِيَّةِ بِأَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ بِالإِطْعَامِ وَلاَ تُجْزِيءُ مَالَاً نَقْدِيَّاً وَلاَ لِبَاسَاً وَلاَ قِيمَةً)
تَنْبِيهُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ عَلَى مَا فِي زَكَاةِ الفِطْرِ مِنْ أَحْكَام (إِعْلاَمُ البَرِيَّةِ بِأَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ بِالإِطْعَامِ وَلاَ تُجْزِيءُ مَالَاً نَقْدِيَّاً وَلاَ لِبَاسَاً وَلاَ قِيمَةً)
  | المقالات, قسم المشرف   | 6007

 تَنْبِيهُ

أَهْلِ الإِسْلاَمِ

عَلَى مَا فِي زَكَاةِ الفِطْرِ مِنْ أَحْكَام

 

 

(إِعْلاَمُ البَرِيَّةِ

بِأَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ بِالإِطْعَامِ

وَلاَ تُجْزِيءُ مَالَاً نَقْدِيَّاً وَلاَ لِبَاسَاً وَلاَ قِيمَةً)

 

 

بقلم فضيلة الشيخ

نزار بن هاشم العبَّاس -حفظه الله تعالى-

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ فهذه مقالةٌ مختصرةٌ عن أحكام زكاة الفطر من رمضان، وفيها بيانٌ بعدم جواز إخراجها من المال النَّقْدِيِّ ولا القيمة ولا الألْبِسَة كما اعتاده للأسف الشديد كثيرٌ من المسلمين اليوم مخالفين -بلا حُجَّةٍ- سُنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة وصحابته والسلف الصالحين وكلام جمهور علماء الفقه والتحقيق -رضي الله عنهم ورحمهم وأجزل لهم الثواب- فأقول وبالله وحده التوفيق والسداد والإصابة:

 

(1) زكاة الفطر فرضٌ واجبٌ على المسلم القادر على إخراجها، سواء كان صائماً أو مفطراً بعذرٍ من الأعذار المعتبرة شرعاً. يخرجها الرجل عن نفسه وعمَّن يعولهم من أهل بيته، وكذا المرأة إن كانت ذات مالٍ عن نفسها. دليل ذلك أن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: «فرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر، صاعاً من تمرٍ أو صاعًا من شعيرٍ، على العبدِ والحرِّ، والذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبيرِ من المسلمينَ، وأمَر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» [رواه البخاري]، وكذا ما راوه أبو سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: «كنا نُخرِجُ زكاةَ الفطر صاعاً من طعامٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من أقِطٍ، أو صاعًا من زبيبٍ» [رواه البخاري].

 

(2) ووقت إخراجها في آخر يومٍ من أيام رمضان؛ مِن بعد المغرب إلى قبيل صلاة عيد الفطر كما في حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: «من أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات» [صحيح أبي داوود]. ولذا سُمِّيَت بــ(زكاة الفطر) أي: الفطر من رمضان بالعيد. وقد جَوَّزَ العلماءُ إخراجها قبل صلاة العيد بيومٍ أو يومين لِـمَا ثبت عن ابنِ عمر -رضي الله عنهما- وغيره: أنه كان يعطيها الذين يَقبَلونَها، وكانوا يُعطَونَ قبلَ الفِطرِ بيومٍ أو يومين [البخاري]، وكان ابن عمر يعطي الصاعَ إذا قعدَ العاملُ وكانَ العاملُ يقعدُ قبل الفطر بيومٍ أو يومين [صحيح ابن خزيمة]. وذلك إذا دعت الحاجة مِن خوف نسيانها أو انشغالٍ عنها أو لضيق الوقت حتى يتمَلَّكَها المسكين قبل العيد ليَقْتَاتَ بها في وقتها ولو بادِّخاره لها بَعْدَه أو بتصرُّفه فيها كما يشاء لأنها صارت في ملْكِهِ ويده.

(3) وقد بَيَّنَ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- الحكمة من مشروعيتها وإخراجها في آخر شهر رمضان المبارك حين فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة الإسلامية حيث قال: «فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطرِ طُهرَةً للصائم من اللغو والرَّفَثِ وطُعْمَةً للمساكين» [صحيح أبي داوود]. و(اللغو والرَّفَث) ما يحصل من الصائم أو الصائمة مما يخدش الصوم؛ قال ابن الأثير: «لغا الإنسان يلغو، ولغى يلغى، ولغي يلغى، إذا تَكَلَّم بالـمُطَّرَح من القول وما لا يعني» [النهاية في غريب الحديث].

و(طعمةً للمسكين) فلا يعدم يوم العيد طعاماً فيستوي مع أغنياء المسلمين والمقتدرين؛ ﻷن يوم العيد -في الفطر أو الأضحى- يوم أكلٍ وشربٍ وفرحٍ بنعم الله الكريم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مناديه لينادي بأن أيَّامَ التَّشريقِ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ [رواه مسلم]. فعلى المسلمين العناية بها والحرص على إخراجها لمساكين المسلمين ورحمتهم بها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» [صحيح الترمذي].

وقد فُسِّرَ قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّه فَصَلَّى﴾ بأنه في زكاة الفطر؛ قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: «ورُوي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أنَّ ذلك في صدقة الفطر وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إنَّ أهل المدينة لا يرون صدقةً أفضل منها ومن سقاية الماء».

(4) وزكاة الفطر فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إخراجَها من الطعام والقوت كما في النصوص السابقة: «فرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر، صاعاً من تمرٍ أو صاعًا من شعيرٍ، على العبدِ والحرِّ، والذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبيرِ من المسلمينَ، وأمَر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» [رواه البخاري]، و«كنا نُخرج زكاةَ الفطرِ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فينا عن كل صغيرٍ وكبيرٍ، حرٍّ ومملوكٍ، من ثلاثة أصنافٍ: صاعاً من تمرٍ، صاعاً من أَقِطٍ، صاعاً من شعيرٍ. فلم نزل نخرجُه كذلك حتى كان معاويةُ، فرأى أنَّ مُدَّينِ من بُرٍّ تعدلُ صاعاً من تمرٍ. قال أبو سعيدٍ: فأما أنا فلا أزال أُخرجُه كذلك» [رواه مسلم].

فهذه النصوص صَرَّحَتْ بوضوحٍ وجلاءٍ لا غموض فيه أنَّ زكاة الفطر لا تكون ولا تُخْرَجُ إلا من الطعام؛ ﻷجل هذا ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) إلى وجوب إخراجها من الطعام لا غير، ومَنَعوا إخراجها من النقد من دراهم ودنانير ونحوه من مالِ ونَقْدِ الناس اليوم؛ قال الإمام مالك -رحمه الله- في (الموطأ/ باب مكيلة زكاة الفطر): «والكفارات كلها وزكاة الفطر وزكاة العشور كل ذلك بالـمُدِّ الأصغر مدِّ النبي صلى الله عليه وسلم».

قال ابن قدامة -رحمه الله- في كتاب المغني (3/65-66) في زكاة الفطر (مسألة: قال ومن أعطى القيمة لا تجزئه) قال أبو داوود: قيل لأحمد -وأنا أسمع-: أعطى دراهم -يعني في زكاة الفطر- قال: أخاف أن لا تجزئه، خلاف سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو طالب: قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قومٌ يقولون عمر بن عبد العزيز يأخذ بالقيمة، قال: يَدَعُون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان!. قال ابن عمر: «فرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من طعام…» الحديث وقال تعالى: ﴿أَطِيعوُا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وقال: قومٌ يردُّون السٌّنن؛ قال فلان!! قال فلان!!.، إلى أن قال: «ولأنَّ مُخْرِج القيمة قد عَدَلَ عن المنصوص فلا يجزئه كما لو أخرج الرَّديء مكان الجيِّد» راجع كلامه في (المغني) فإنَّه مفيدٌ نافعٌ -إن شاء الله-.

وقال ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- في المحلَّى (3716) في زكاة الفطر (مسألة 708): «ولا يجزيء إخراج بعض الصَّاع شعيراً وبعضه تمراً ولا تجزيء قيمة أصلاً لأنَّ كل ذلك غير ما فرَضَه رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتحدَّث عن زكاة الفطر: «لهذا أوجَبَها الله طعاماً كما أوجَبَ الكفَّارة طعاماً» [الفتاوى (25/73)].

وذَهَبَ مذهبَ الجمهورِ علماءُ المسلمين المعتبرين اليوم كالشيوخ الأعلام: ابن باز، والعثيمين، والألباني -رحمهم الله أجمعين-.

قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: «ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم وهو أصح دليلاً، بل الواجب إخراجها من الطعام كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم-، وبذلك قال جمهور الأمة» [مجموع الفتاوى والرسائل].

وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: «أَخْرِجوها ممَّا فرَضَه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام ولا تُخْرِجوها من الدراهم ولا من الكسوة فمن أخْرَجَها من ذلك لم تُقْبَل ولو أخرَجَ عن الصَّاع ألف درهمٍ أو ألف ثوبٍ لم يُقْبَل منه خلاف ما فرَضَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‹من عَمِلَ عملاً ليس أمرنا فهو ردٌّ›» [الضياء اللامع (ص455)].

وقال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين  الألباني -رحمه الله-: «فلذلك حدَّد الشارعُ المفروضَ ألا وهو الطعام من هذه الأنواع المنصوصة في هذا الحديث وفي غيره، فانحراف بعض الناس عن تطبيق النص إلى البديل الذي هو النَّقْد؛ هذا اتهامٌ للشارع بأنه لم يحسن التشريع لأن تشريعهم أفضل وأنفع للفقير!! هذا لو قَصَدَه كَفَرَ به، لكنهم لا يقصدون هذا الشيء، لكنهم يتكلمون بكلامٍ هو عين الخطأ، إذاً لا يجوز إلا إخراج ما نصَّ عليه الشارع الحكيم وهو طعاٌم على كل حالٍ» [سلسلة الهدى والنور/247].

كل ذلك منهم -رحمهم الله- عملاً بالنص الشرعي وتعظيمه؛ لأن الخير كل الخير في اتباع النصوص الشرعية وتطبيقها وعدم إهمالها ومعارضتها بشبهات العقول والاجتهادات المخالفة لها، بل صَرَّحوا بعدم إجزائها وصحتها إذا كانت من القيمة والنَّقْد -كما مَرَّ معنا عنهم-.

وقال الإمام مالك -رحمه الله- كما في (المدوَّنة): «ولا يجزيء الرجل أن يعطي مكان زكاة الفطر عرضاً من العروض».

 

تنبيهٌ مهمٌّ:

ومما يُسْتَعْجَبُ ويُسْتَغْرَبُ له كل الغرابة والعَجَب -والله المستعان-: أنَّ كثيراً ممن ينتسب إلى مذهب الإمام مالك -رحمه الله- ببلاد السودان يخرج زكاة الفطر نَقْدَاً ومالاً!! مخالِفَاً المذهب الذي ينتسب إليه بلا علمٍ، وربما لم يقف على حقيقة مذهبه في هذه المسألة فوَقَعَ في مخالَفَة النص والمذهب معاً، وإمام المذهب -رحمه الله- مذهبُه قام على الدليل، وما خالف الدليلَ عنده أَرْشَدَ بِطَرْحِهِ والأخذ بالسُّنَّة الصحيحة. وللأسف لا يكترث كثيرٌ من المتعصِّبة للمذاهب للأدلة الصحيحة ولا للمذهب إذا صح دليلُه (راجِع لذلك قريباً إن شاء الله «ما خالف فيه بعضُ أتباع مذهب مالِك ما عليه الإمام مالك»).

فالواجب على المسلمين الاتباع لهم والعمل بقولهم لأنه عملٌ بالشرع ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً

وعلينا الحذر كل الحذر من مخالفتهم لأنها مخالفةٌ للشرع والسنة وصاحبِها صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

والسعادة كل السعادة وسلوك طريق السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة في الاهتداء بهديه وسُنَّته صلى الله عليه وسلم ﴿من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾.

قال الشافعي -رحمه الله-: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحدٍ».

عليه؛ فإن مَنْ خالَفَ الأدلة وجمهور العلماء فجَوَّزَ إخراجها نقداً ولباساً فإنه لا حجة عنده، بل الحجة عليه.

(5) وما يستدل به المخالِف مِن قول أبي حنيفة ومذهبه -رحمه الله- فإنه لا يُسَلَّمُ له لأمورٍ منها:

1- مخالَفَتُه للنص الصحيح الصريح الواضح الناطق بالإطعام.

2- أن أبا حنيفة -رحمه الله- استدلَّ على مذهبه بحديثٍ ضعيفٍ منسوبٍ لجابرٍ -رضي الله عنه-: «أغنوهم في هذا اليوم»؛ فالجواب أن يقال: هو حديثٌ ضعيفٌ وعلَّته أبو معشر، قال الحافظ في التَّقريب: «ضعيفٌ، أسَنَّ واختلطَ» [راجع تمام المنَّة (ص388)] وقد ضعَّفه الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام). والحديث الضعيف لا يُعْمَلُ به. وإِنْ صَحَّ الحديثُ فَرْضَاً فإنه لا يفيد في مخالَفَة النص؛ فإنَّ الإغناء يكون بإعطاء الطعام؛ بل المال والنَّقْدُ خَلَقَهُ اللهُ ليحقِّقَ صاحبُه كفايتَه من الطعام الذي به قوام الحياة.

ويقال أيضاً: إن الشرع لا يمانع مطلقاً أن يُعْطِيَ الغنيُّ -بعد إخراجه زكاة فِطْرِهِ طعاماً- المسكينَ مِن حُرِّ مالِه ونَقْدِهِ وما يسعده ويفرحه من لباسٍ وحاجةٍ؛ فلا تَعَارُضَ مطلقاً والحمد لله.

3- لا يجوز شرعاً أَخْذُ مَذْهَبٍ إذا عَارَضَ نَصَّاً صحيحاً ولو لم يَقُلْ ويَعْمَل به عالمٌ؛ فكيف إذا قال به علماء معتبرون؟!! نعم، يُعْتَذَرُ للعالِـمِ بأعذار مشروعةٍ مِنْ عدم وصول النص إليه أو خفائه عليه أو عدم ظَنِّه بصحته… إلخ من الأعذار والمحامل الحسنة [راجع لها (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-].

وكذا مَنْ خَالَفَ النَّصَّ وكلام العلماء فأخرَجَ زكاة الفطر مالاً ونَقْداً ولباساً وثياباً مُحْتَجَّاً برأيه وعقله أن المسكين في يوم العيد في حوجةٍ للثياب واللباس ليفرح مع الناس؛ فيقال: هذا احتجاجٌ واهٍ وساقطٌ معارِضٌ للنصوص الشرعية وحِكْمَتِها والعقلِ السليم؛ فإن الله تعالى حين شَرَعَ رسولُه -صلى الله عليه وآله وسلم- زكاة الفطر طعاماً عالمٌ بحال عباده وخَلْقِهِ وحوجتِهم إلى يوم القيامة، وهو -سبحانه- أرحم بهم من كل خَلْقِهِ وأَعْلَمُ بكل مصالحهم وحكيمٌ في كل شرعه وحكمه؛ فإنه أَمَرَ بأن يُعْطَى المسكين طعاماً لا غير؛ لأن أعظمَ حاجةٍ تُسَدُّ وتُدْفَعُ هي حاجة المسكين إلى الطعام لأنه بفَقْدِهِ له قد يفقد حياته وبقاءه بخلاف الثياب واللباس.. قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ما آمنَ بي مَن باتَ شبعانًا وجارُه جائعٌ إلى جَنبِه وهوَ يعلَمُ» [صحيح الجامع].

وقد كان صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم- في أشدِّ الحاجة إلى النَّقْد والثياب في زمن التشريع كما هو معلومٌ، ومع ذلك لم يعتبر -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الحوجة وفَرَضَ زكاة الفطر طعاماً ليس إلا.

فمخالَفَة هذا الحكم والفَرْض تَعَقُّبٌ قبيحٌ على الله العظيم، وقد قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾.

قال الشاطبي -رحمه الله- في (الاعتصام): «لما كان هذا المعنى الموجِبَ لشرع الحكم العملي موجودًا ثم لم يُشْرَع الحكم دلالةً عليه؛ كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعةٌ زائدةٌ ومخالفةٌ لما قَصَدَه الشارع إذ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الوقوف عندما حَدَّ هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه».

فلا خير ولا خيار إلا في اتباع الكتاب والسنة ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.

قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: «إخراج القيمة مخالفٌ لعمل الصَّحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعاً من طعام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ‹عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديين من بعدي›. لأنَّ زكاة الفطر عبادةٌ مفروضةٌ من جنسٍ معيَّنٍ فلا يجزي إخراجها من غير الجنس المعيَّن كما لا يجزي إخراجها في غير الوقت المعيَّن ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عيَّنها من أجناسٍ مختلفةٍ وأقيامُها مختلفةٌ غالباً فلو كانت القيمة معتبرةً لكان الواجب صاعاً من جنس ما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى. ولأنَّ إخراج القيمة يخرج عن كونها شعيرة ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفيةً بينه وبين الآخذ».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وصدقة الفطر من جنس الكفارات؛ هذه معلَّقةٌ بالبدن وهذه معلَّقةٌ بالبدن، بخلاف صدقة المال فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله» [مجموع الفتاوى (25/71)].

 

تنبيهٌ:

أمَّا مَنْ نَسَبَ لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه يجوِّز إخراج زكاة الفطر قيمةً ونَقْدَاً فهو إما جاهلٌ بالعلم ولغته وأصوله وبكلامه -رحمه الله- أو كاذبٌ مُفْتَرٍ عليه مُتَّبِعٌ لهواه، نسأل الله العافية؛ ذلك لأنه وَقَفَ على كلام لشيخ الإسلام (في شأن زكاة الأموال الواجبة) وأنه عند الحوجة والاضطرار والمصلحة الراجحة يجوز إعطاء القيمة بدلاً عن أصلها الواجب، فجَعَلَه دليلاً ومسوِّغاً له في إخراج زكاة الفطر قيمةً. وحتى يتضح الأمر فهذا كلام شيخ الإسلام بنَصِّه: «وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به مثل أن يبيع ثمرَ بستانه أو زرعه فهنا إخراج عُشْرِ الدراهم يجزئه ولا يُكَلَّف أن يشتري ثمراً وحنطةً إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نصَّ أحمد على جواز ذلك. ومثل أن يجب عليه شاةٌ في خمسٍ من الإبل وليس عنده من يبيعه شاةً فإخراج القيمة هنا كافٍ ولا يُكَلَّف السفر إلى مدينةٍ أخرى ليشتري شاةً…» [مجموع الفتاوى (25/82-83)]. فهذا كلامٌ أَوْضَحُ من الشمس في بيان جواز القيمة في الزكاة الواجبة لا في زكاة الفطر بأدنى تأمُّلٍ والحمد لله.

(6) أما مقدار زكاة الفطر فإنه -كما في النص-: «صاعاً من طعامٍ»، والصاع هو أربعة أمداد، و(الـمُدُّ) في الأصل مقدَّرٌ بأَن يَمُدَّ الرجل يديه فيملأَ كفيه طعاماً [لسان العرب لابن منظور]، وقال صاحب القاموس المحيط: «مِكْيالٌ، وهو رطلان، أو رطلٌ وثلثٌ، أو ملء كَفَّيِ الإنسان المعتدِل إذا ملأهما ومد يده بهما، وبه سُمِّيَ مُدًّا، وقد جَرَّبْتُ ذلك فَوَجَدْتُهُ صحيحاً».

قال ابن الأثير: «وهو مكيالٌ يسع أربعة أمداد، والمد مختلَفٌ فيه، فقيل: هو رطلٌ وثلثٌ بالعراقي، وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز. وقيل: هو رطلان، وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق، فيكون الصاع خمسة أرطالٍ وثلثاً، أو ثمانية أرطال» [النهاية في غريب الحديث].

قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: «هو أربع حفنات باليدين المعتدلتين الممتلئتين، كما في القاموس وغيره، وهو بالوزن ما يقارب ثلاثة كيلو غرام» [مجموع الفتاوى والرسائل].

 

عليه؛ فإن الصاعَ صاعُ الإنسان بيده (أربعة أمدادٍ بمُدِّ يديه) أو الصاع المحدَّد مِنْ قِبَلِ السلطان إِنْ حدَّدَه السلطان، فإن لم يحدده أو كان في تحديده مخالفةٌ للصاع الطبيعي[1] الذي باليدين المتوسطتين فإنه يُرْجَعُ إلى صاع المسلم بِيَدِ نفسِه وما يقابله من الأوزان الحديثة اليوم. ومما يؤيد هذا إن شاء الله تعالى قولُه صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِه! لو أن أحدَكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدِهم ولا نصيفَه» [رواه مسلم]، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- أنها كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها الحر منهم والمملوك مُدَّيْنِ مِن حِنطةٍ أو صاعاً من تمرٍ (بالمد) أو بالصاع الذي يقتاتون به [أخرجه الطحاوي واللفظ له، وابن أبي شيبة، وأحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين].

 

وهذا لا يعارض قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «الوزنُ وزنُ أَهْلِ مَكَّةَ والمِكْيالُ مِكْيالُ أَهْلِ المدينةِ» [صحيح أبي داوود]؛ لأنه لا نَصَّ يحدد ذلك الكَيْل ولا الوزن وهو يختلف بحسب الأزمان والأماكن ويطرأ عليه التغيير والتبديل والزيادة والنقص، وقد يفيد النص أن المراد خَيْرُ الكيل والوزن دِقَّةً ووفاءً في ذاك الزمان كَيْل أهل المدينة ووَزْن أهل مكة، وربما أفاد الحديث أيضاً أن الكَيْل لأهل المدينة لأنهم أهل زرعٍ وحرثٍ فهم أعلم بالكَيْل وبه أَخْبَرُ، وأهل مكة أهل تجارةٍ وتداخُلٍ مِن القديم مع البلاد الأخرى وتعاملوا بالدرهم والدينار والأوزان فكانوا في الوزن أعلمَ وأَدَقَّ وأَخْبَرَ. فهذه بعض المعاني والمحامل يُحْمَلُ عليها حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويضاف إليها أنه لو سَلَّمْنَا بأخذ التحديد منه لهذين المعيارين في هاتين المدينتين فإنه لا يفيد الوجوب والإلزام والحصر لما ذُكِرَ وحُرِّرَ إن شاء الله.

(7) والطعام الذي يُخْرَجُ في زكاة الفطر ما نَصَّ عليه الحديث (صاعاً من طعامٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من أقِطٍ[2]، أو صاعًا من زبيبٍ)؛ فهذه هي أقوات الناس إلى يومنا هذا، ويدخل فيها أيضاً الأرز وما جرى مجراه إذا صار غذاءً رئيساً مما يقتات ويُدَّخَر، فيُعْطَى المسكين منها ما يأكله واعتاد عليه.

 

(8) وزكاة الفطر تُعْطَى للمسكين المسلم فحَسْب وتُحْصَرُ عليه فلا تعطى لكافرٍ؛ لأنها شعيرةٌ لإظهار شعيرة العيد والطعم لأجله فرحاً بنعمة الله وإكمال رمضان.

قال الإمام مالك -رحمه الله-:«لا يعطى أهل الذمة ولا العبيد من صدقة الفطر شيئاً» [المدونة].

ويجوز إعطاء زكاة الفرد لمسكينٍ واحدٍ أو لعدة مساكين أو ﻷسرةٍ منهم، ويجوز إعطاء زكاة جماعةٍ من المسلمين لمسكينٍ واحدٍ أو أكثر كما مَرَّ معنا؛ قال الإمام مالك -رحمه الله-: «لا بأس أن يعطي الرجلُ صدقة الفطر عنه وعن عياله مسكيناً واحداً» [المدونة].

مثالٌ: لو كان شخصٌ يعول أسرةً من سبعة أفرادٍ فإنه سيخرج سبعة أصواعٍ من الأرز أو التمر.. يعطيها لمسكينٍ واحدٍ أو أكثر.

 

تنبيهان:

1- قال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- بعد أن ذكر حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- أنها كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها الحر منهم والمملوك مُدَّيْنِ مِن حِنطةٍ أو صاعاً من تمرٍ بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به [أخرجه الطحاوي واللفظ له، وابن أبي شيبة، وأحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين]؛ قال: «فثَبَتَ من ذلك أن الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاعٍ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (الاختيارات/ص60) وإليه مال ابن القيم كما سبق وهو الحق إن شاء الله تعالى» [تمام المنة في التعليق على فقه السنة].

2- المقدار المعتبر في بلاد السودان (حرسها الله) حسب ما قَدَّرَتْهُ الدولة من معيار أهلها في زكاة الفطر هو: أن الكيلة الواحدة تكفي عن ستة أشخاص.

وأخيراً.. اعلم أخي المسلم أنَّ الحجَّة في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرَد إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبَتَ لديك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة الثلاثة وغيرهم من أهل العلم أنَّ زكاة الفطر تخرج من طعام المسلمين، فعليك أن تعضَّ على ذلك بالنَّواجذ ودَعْ عنك كلام من خالَفَهم فإنَّهم لن يضرُّوك شيئاً.

والله نسأل لنا ولإخواننا المسلمين الهداية والتوفيق والإخلاص في القول والعمل وأن يجعلنا من المتَّبعين للنبي صلى الله عليه وسلم حقَّاً وصدقاً؛ إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

 

 

كتَبَــه

نزار بن هاشم العبَّاس

خريج الجامعة الإسلاميَّة بالمدينة النبويَّة

والمشرف على موقع راية السَّلف بالسُّودان

 

15/ رمضان/ 1436هـ

(وكان المقال هذا قد كُتِبَ ووُزِّعَ قديماً في عام 1423هـ،

ثم يسَّر الله تعديله والإضافة عليه في هذا العام بتاريخه أعلاه، ولله الحمد والمنة)

 


[1] كما هو مشاهَدٌ اليوم؛ فإنه بالنظر الطبيعي إلى أوزان الناس اليوم (الكيلو الفرنسي والرطل الإنجليزي) يكون تقدير الصاع المنصوص عليه شرعاً (وهو ملء أربعة أَكُفٍّ متوسطةٍ من الطعام) بأنه ما بين (2-3) كيلو غرام يحتاج إلى وقفةٍ وتأملٍ؛ ولذا كان الأوفق والأقرب للنص الشرعي أن يُرْجَعَ الأمر إلى كل إنسانٍ بحسبه، أعني: صاع يده، أو ما حدَّده السلطان وحاكم المسلمين وجهاته المعنيَّة بذلك.

[2] والأَقِط: هو عبارة عن لبنٍ مجفَّف، حامض الطعم، يؤكل ويُطْبَخ به.

 

 

 

لتحميل الملف بصيغة (PDF) منسَّقة جاهز للطباعة

من هنا

[https://archive.org/download/ZakatAlFitr_201904/Zakat_al-Fitr.pdf]